فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{فَخَرَجَ على قَوْمِهِ} عطف على {قال} [القصص: 78] وما بينهما اعتراض، وقوله تعالى: {فِى زِينَتِهِ} إما متعلق بخرج أو بمحذوف هو حال من فاعله أي فخرج عليهم كائنًا في زينته. قال قتادة: ذكر لنا أنه خرج هو وحشمه على أربعة آلاف دابة عليهم ثياب حمر منها ألف بغلة بيضاء وعلى دوابهم قطائف الأرجوان. وقال السدى: خرج في جوار بيض على سروح من ذهب على قطف أرجوان وهن على بغال بيض عليهن ثياب حمر وحلى ذهب، وقيل: خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف خادم عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر وعلى يمينه ثلثمائة غلام وعلى يساره ثلثمائة جارية بيض عليهن الحلى والديباج.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه خرج في سبعين ألفًا عليهم المعصفرات، وكان ذلك أول يوم في الأرض رؤيت المعصفرات فيه، وقيل غير ذلك من الكيفيات، وكان ذلك الخروج على ما قيل يوم السبت {قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا الدنيا ياليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قارون} قيل كانوا جماعة من المؤمنين، وقالوا ذلك جريًا على سنن الجبلة البشرية من الرغبة في السعة واليسار.
وعن قتادة أنهم تمنوا ذلك ليتقربوا به إلى الله تعالى وينفقوه في سبيل الخير، ولعل إرادتهم الحياة الدنيا ليتوصلوا بها للآخرة لا لذاتها فإن إرادتها لذاتها ليست من شأن المؤمنين، وقيل: كانوا كفارًا ومنافقين، وتمنيهم مثل ما أوتي دونه نفسه من باب الغبط ولا ضرر فيه على المشهور، وقيل: ضرره دون ضرر الحسد فقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل يضر الغبط؟ فقال: «لا إلا كما يضر العضاة الحبط» وفي الكشاف الظاهر أنه نفي للضرر على أبلغ وجه فإن الشجر ربما ينتفع بالخبظ فضلًا عن التضرر، وفيه أنه قد يفضي إلى الضرر إشارة إلى متعلق الغبط من ديني أو دنيوي، وقائل ذلك إن كان الكفرة ففيه من ذم الحسد ما فيه {إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ} قال الضحاك: أي درجة عظيمة، وقيل نصيب كثير من الدنيا، والحظ البخت والسعد، ويقال: فلأن ذو حظ وحظيظ ومحظوظ، والجملة تعليل لتمنيهم وتأكيد له.
{وَقَالَ الذين أُوتُوا العلم} أي بأحوال الدنيا والآخرة كما ينبغي ومنهم يوشع عليه السلام، وإنما لم يوصفوا بإرادة ثواب الآخرة تنبيهًا على أن العلم بأحوال النشأتين يقتضي الأعراض عن الأولى والإقبال على الأخرى حتمًا، وأن تمنى المتمنين ليس إلا لعدم علمهم بهما كما يمنبغي.
وقيل المراد بالعلم: معرفة الثواب والعقاب، وقيل: معرفة التوكل، وقيل: معرفة الأخبار، وما تقدم أولى {وَيْلَكُمْ} دعاء بالهلاك بحسب الأصل ثم شاع استعماله في الرجز عما لا يرتضى، والمراد به هنا الزجر عنالتمني وهو منصوب على المصدرية لفعل من معناه {ثَوَابُ الله} في الآخرة {ثَوَابُ الله خَيْرٌ لّمَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صالحا} فلا يليق بكم أن تتمنوه غير مكتفين بثوابه عز وجل، هذا على القول بأن المتمنين كانوا مؤمنين أو فآمنوا لتفوزوا بثوابه تعالى الذي هو خير من ذلك، وتقدير المفضل عليه ما تتمنوه لاقتضاء المقام إياه، ويجوز أن يقدر عامًا ويدخل فيه ما ذكر دخولًا أوليًا أي خير من الدنيا وما فيها {وَلاَ يُلَقَّاهَا} أي هذه المقالة أو الكلمة التي تكلم بها العلماء، والمراد بها المعنى اللغوي أو الثواب، والتأنيث باعتبار أنه بمعنى المثوبة أو الجنة المفهومة من الثواب، وقيل: الإيمان والعمل الصالح، والتأنيث والإفراد باعتبار أنهما بمعنى السيرة أو الطريقة، ومعنى تلقيها إما فهمها أو التوفيق للعمل بها {إِلاَّ الصابرون} على الطاعات وعن المعاصي والشهوات، ولعل المراد بالصابرين على القول الأخير في مرجع الضمير المتصفون بالصبر في علم الله تعالى فتدبر.
{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض}. روى ابن أبي شيبة في المصنف. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والحاكم. وصححه. وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قارون كان ابن عم موسى عليه السلام وكان يتبع العلم حتى جمع علمًا فلم يزل في ذلك حتى بغي على موسى عليه السلام وحسده، فقال موسى: إن الله تعالى أمرني أن آخذ الزكاة فأبى فقال: إن موسى عليه السلام يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم، قالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلا بغي من بغا يابني إسرائيل فنزرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك. قالت: نعم. فجاء قارون إلى موسى عليه السلام قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك. قال: نعم فجمعهم فقالوا له: بما أمرك ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله تعالى ولا تشركوا به شيئًا وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا، وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم. قالوا: وإن كنت أنت؟ قال: نعم. قالوا: فإنك قد زنيت. قال: أنا فأرسلوا إلى المرأة فجاءت. فقالوا: ما تشهدين على موسى عليه السلام؟ فقال لها موسى عليه السلام: أنشدك بالله تعالى إلا ما صدقت. فقالت: أما إذ أنشدتني بالله تعالى فإنهم دعوني وجعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي وأنا أشهد أنك بريء وأنك رسول الله فخر موسى عليه السلام ساجدًا يبكي فأوحى الله تعالى إليه ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها تطعك فرفع رأسه فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم، فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى فقال خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم فجعلوا يقولون يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فغيبتهم فأوحى الله تعالى يا موسى سألك عبادي وتضرعوا إليك فلم تجبهم وعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم وفي بعض الروايات أنه جعل للبغي ألف دينار، وقيل: طستا من ذهب مملوءة ذهبًا، وفي بعض أنه عليه السلام قال في سجوده: يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله تعالى إليه مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك، فقال: يا بني إسرائيل إن الله تعالى بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا جميعًا غير رجلين. ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم إلا الأوساط ثم إلى الأعناق وهم يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشدونه الرحم وهو عليه السلام لا يلتفت إلى قولهم لشدة غضبه ويقول خذيهم حتى انطبقت عليهم فأوحى الله تعالى يا موسى ما أفظك استغاثوا بك مرارًا فلم ترجمهم أما وعزتي لو أياي دعوا مرة واحدة لوجدوني قريبًا مجيبًا، وفي رواية أن الله سبحانه أوحى إليه ما أشد قلبك وعزتي وجلالي لو بي استغاث لأغثته، فقال عليه السلام: رب غضبا لك فعلت. ثم إن بني إسرائيل قالوا: إنما فعل موسى عليه السلام به ذلك ليرثه، فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله. وفي بعض الأخبار أن الخسف به وبداره كان في زمان واحد، وكانت داره فيما قيل: من صفائح الذهب وجاء في عدة آثار أنه يخسف به كل يوم قامة وأنه يتجلجل في الأرض لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة والله تعالى أعلم بصحة ذلك، بل هو مشكل إن صح ما قاله الفلاسفة في مقدار قطر الأرض ولم يقل بأن لها حركة أصلًا، وأما الخسف فلا شك في إمكانه الذاتي والوقوعي وسببه العادي مبين في محله {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ} أي جماعة معينة مشتقة من فأوت قلبه إذا ميلته، وسميت الجماعة بذلك لميل بعضهم إلى بعض؛ وهو محذوف اللام ووزنه فعة، وقال الراغب: إنه محذوف العين فوزنه فلة وأنه من الفيء وهو الرجوع لأن بعض الجماعة يرجع إلى بعض و{مِنْ} صلة أي فما كان له فئة {يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله} بدفع العذاب عنه {وَمَا كَانَ} أي بنفسه {مِنَ المنتصرين} أي الممتنعين عن عذابه عز وجل، يقال؛ نصره من عدوه فانتصر أي منعه فامتنع، ويحتمل أن يكون المعنى وما كان منّ المنتصرين بأعوانه فذكر ذلك للتأكيد.
{وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْا مَكَانَهُ} أي مثل مكانه ومنزلته لما تقدم من قولهم {مثل ما أوتي} [القصص: 79]، وجوز كون هذا على ظاهره و{مَثَلُ} هناك مقحمة وليس بذاك {بالامس} منذ زمان قريب وهو مجاز شائع، وجوز حمله على الحقيقة والجار والمجرور متعلق بتمنوا أو بمكانه، قيل: والعطف بالفاء التي تقتضي التعقيب في {فَخَسَفْنَا} [القصص: 81] يدل عليه.
وفي البحر دل أصبح إذا حمل على ظاهره على أن الخسف به وبداره كان ليلًا وهو أفظه العذاب إذ الليل مقر الراحة والسكون، وقال بعضهم: هي بمعنى صار أي صار المتمنون.
{يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} أي يفعل كل واحد من البسط والقدر أي التضييق والقتر لا لكرامة توجب البسط ولا لهوان يوجب التضييق، ووى عند الخليل وسيبويه اسم فعل ومعناها أعجب وتكون للتحسر والتندم أيضًا كما صرحوا به، وعن الخليل أن القوم ندموا فقالوا متندمين على ما سلف منهم {وى} وكل من ندم وأراد اظهار ندمه قال: {وى} ولعل الأظهر إرادة التعجب بأن يكونوا تعجبوا أو لا مما وقع وقالوا ثانيًا كأن الخ وكأن فيه عارية عن معنى التشبيه جيء بها للتحقيق كما قيل ذلك في قوله:
وأصبح بطن مكة مقشعرا ** كأن الأرض ليس بها هشام

وأنشد أبو علي:
كانني حين أمسى لا تكلمني ** متيم يشتهي ما ليس موجودًا

وقيل: هي غير عارية عن ذلك، والمراد تشبيه الحال المطلق بما في حيزها إشارة إلى أنه لتحققه وشهرته يصلح أن يشبه به كل شيء وهو كما ترى وزعم الهمداني أن الخليل ذهب إلى أن {وى} للتندم وكأن للتعجب والمعنى ندموا متعجبين في أن الله تعالى يبسط الخ، وفيه أن كون كأن للتعجب مما لم يعهد، وأيًا ما كان فالوقف كما في البحر على {وى} والقياس كتابتها مفصولة وكتبت متصلة بالكاف لكثرة الاستعمال وقد كتبت على القياس في قول زيد بن عمرو بن نفيل:
وي كأن من يكن له نشب يحـ ** ـبب ومن يفتقر يعش عيش ضر

وقال الأخفش: الكاف متصلة بها وهي اسم فعل بمعنى أعجب، والكاف حرف خطاب لا موضع لها من الإعراب كما قالوا في ذلك ونحوه، والوقف على ويك، وعلى ذلك جاء قول عنترة:
ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها ** قيل الفوارس ويك عنتر أقدم

و{إن} عنده مفتوحة الهمزة بتقدير العلم أي أعلم أن الله الخ، وذهب الكسائي. ويونس. وأبو حاتم وغيرهم إلى أن أصله ويلك فخفف بحذف اللام فبقي ويك، وهي للردع والزجر والبعث على ترك ما لا يرضى، وقال أبو حيان: هي كلمة تحزن وأنشد في التحقيق قوله:
ألاويك المضرة لا تدوم ** ولا يبقى على البؤس النعيم

والكاف على هذا في موضع جر بالإضافة، والعامل في أن فعل العلم المقدر كما سمعت أو هو بتقدير لأن على أنه بيان للسبب الذي قيل لأجله ويك، وحكى ابن قتيبة عن بعض أهل العلم أن معنى ويك رحمة لك بلغة حمير، وقال الفراء: ويك في كلام العرب كقول الرجل: ألا ترى إلى صنع الله تعالى شأنه، وقال أبو زيد وفرقة معه: وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويكأن حرف واحد بجملته وهو بمعنى ألم تر.
{لَوْلا أَن مَّنَّ عَلَيْنَا} بعدم اعطائه تعالى ما تمنيناه من إعطائنا مثل ما أعطاه قارون {لَخَسَفَ بِنَا} أي الأرض كما خسف به أو لولا أن من الله تعالى علينا بالتجاوز عن تقصيرنا في تمنينا ذلك لخسف بنا جزاء ذلك كما خسف به جزاء ما كان عليه.
وقرأ الأعمش {لَوْلاَ مِنْ} بحذف {إن} وهي مرادة، وروي عنه من الله برفع من والإضافة. وقرأ الأكثر {لَخَسَفَ بِنَا} على البناء للمفعول و{بِنَا} هو القائم مقام الفاعل، وجوز أن يكون ضمير المصدر أي لخسف هو أي الخسف بنا على معنى لفعل الخسف بنا، وقرأ ابن مسعود. وطلحة. والأعمش {لا نَخْسِفْ بِنَا} على البناء للمفعول أيضًا و{بِنَا} أو ضمير المصدر قائم مقام الفاعل، وعنه أيضًا {لتخسف} بتاء وشد السين مبنيًا للمفعول {بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} لنعمة الله تعالى أو المكذبون برسله عليهم السلام وبما وعدوا من ثواب الآخرة، والكلام في ويكأن هنا كما تقدم بيد أنه جوز هنا أن يكون لأن على بعض الاحتمالات تعليلًا لمحذوف بقرينة السياق أي لأنه لا يفلح الكافرون فعل ذلك أي الخسف بقارون، واعتبار نظيره فيما سبق دون اعتبار هذا هنا، وضمير ويكأنه للشأن.
هذا وفي مجمع البيان أن قصة قارون متصلة بقوله تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى} [القصص: 3] عليه السلام، وقيل: هي متصلة بقوله سبحانه: {فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شيء فمتاع الحياة الدنيا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى} [القصص: 60]، وقيل: لما تقدم خزى الكفاء وافتضاحهم يوم القيامة ذكر تعالى عقيبه أن قارون من جملتهم وأنه يفتضح يوم القيامة كما افتضح في الدنيا، ولما ذكر سبحانه فيما تقدم قول أهل العلم {ثَوَابُ الله خَيْرٌ} [القصص: 80] ذكر محل ذلك الثواب بقوله عز وجل: {تِلْكَ الدار الآخرة} مشيرًا إشارة تعظيم وتفخيم إلى ما نزل لشهرته منزلة المحسوس المشاهد كأنه قيل: تلك التي سمعت خبرها وبلغك وصفها، و{الدار} صفة لاسم الإشارة الواقع مبتدأ وهو يوصف بالجامد ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي نعيم الدار كما يوهمه كلام البحر، و{الآخرة} صفة للدار، والمراد بها الجنة وخبر المبتدأ قوله تعالى: {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا وَفِى الأرض} أي غلبة وتسلطًا {وَلاَ فَسَادًا} أي ظلمًا وعدوانًا على العباد كدأب فرعون وقارون، وليس المصوول مخصوصًا بهما، وفي إعادة {لا} إشارة إلى أن كلا من العلو والفساد مقصود بالنفي، وفي تعليق الموعد بترك ءرادتهما لا بترك أنفسهما مزيد تحذير منهما.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال: العلو في الأرض التكبر وطلب الشرف والمنلزة عند سلاطينها وملوكتها والفساد العمل بالمعاصي وأخذ المال بغير حقه. وعن الكلبي العلو الاستكبار عن الإيمان والفساد الدعاء إلى عبادة غير الله تعالى، وروي عن مقاتل تفسير العلو بما روي عن الكلبي، وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو وال يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبقال والبياع فيفتتح عليه القرآن ويقرأ تلك الدار الآخرة إلى آخرها، ويقول: نزلت هذه الآية {تِلْكَ الدار الآخرة} الخ، في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس.
وأخرج ابن مردويه عن عدي بن حاتم أنه لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ألقى إليه وسادة فجلس على الأرض، فقال عليه الصلاة والسلام أشهد أنك لا تبغي علوًا في الأرض ولا فسادًا فأسلم رضي الله تعالى عنه، وعن الفضيل أنه قرأ الآية ثم قال: ذهبت الأماني ههنا، وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يرددها حتى قبض، وأخرج ابن أبي سيبة. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: إن الرجل ليحب أن يكون شسع نعله أجود من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية.
ولعل هذا إذا أحب ذلك ليفتخر على صاحبه ويستهينه وإلا فقد روي أبو داود عن أبي هريرة أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان جميلًا فقال: يا رسول الله إني رجل حبب إلى الجمال وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقني أحد إما قال بشراك لعل وإما قال بشسع نعل أفمن الكبر ذلك؟ قال لا ولكن الكبر من بطر الحق وغمط الناس. وروي مسلم. وأبو داود. والترمذي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا قال: «إن الله تعالى جميل يحب الجمال؛ الكبر بطر الحق وغمط الناس» واستدل بعض المعتزلة بالآية بناء على عموم العلو والفساد فيها على تخليد مرتكب الكبيرة في النار، وفي الكشاف ما هو ظهار في ذلك، والتزم بعضهم في الجواب تفسير العلو والفساد بما فسرهما به الكلبي وآخر أن المراد بهما ما يكون مثل العلو والفساد اللذين كانا من فرعون وقارون.
ورد بأن التذييل بقوله تعالى: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} يدل على أن العمدة هي التقوى ولا يكفي ترك العلو والفساد المقيدين.
وأجيب بأن المتقي هاهنا هو المتقي من علو فرعون وفساد قارون أو من لم يكن من المؤمنين مثل فرعون في الاستكبار على الله تعالى بعدم امتثال أوامره والارتداع عن زواجره ولم يكن مثل قارون في إرادة الفساد في الأرض وإخراج كل شيء من كونه منتفعًا به لاسيما نفسه فإن غاية إفسادها الامتناع من عبادة ربها لأنها خلقت للعبادة فإذا امتنع عنها خرجت عن كونها منتفعًا بها وليس معنى المتقي إلا ذلك.
وتعقبه صاحب الكشف بأن الأول تقييد بلا دليل والثاني هو الذي يسعى له المعتزلي، وقال الفاضل الخفاجي: إما أن يراد بالعاقبة المحمودة على وجه الكمال أو يراد بالمتقي المتقي ما لا يرضاه الله تعالى مثل حال قارون بقرينة المقام، والنصوص الدالة على أن غير الكفار لا يخلد في النار فلا وجه للقول بأن ذلك تقييد بلا دليل مع أن مبنى الاستدلال على أن اللام للتخصيص وهو ممنوع، وقال بعض في الجواب على تقدير إرادة العموم في علوًا وفسادًا: إن المراد من جعل الجنة للذين لا يريدون شيأ منهما تمكينهم منها أتم تمكين نحو قولك: جعل السلطان بلد كذا لفلان وذلك لا ينافي أن يدخلها غيرهم من مرتكب الكبيرة ويكون فيها بمنزلة دون منزلتهم، ولعله إنما دخلها بشفاعة بعض منهم، وقريب منه ما قيل: إن جعلها لهم باعتبار أنهم أهلها الأولون وملوكها السابقون وغيرهم إنما يرد عليهم وينزل بهم؛ ويقال في قوله تعالى: {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} نحو ما مر آنفًا عن الخفاجي.
بقي في الآية كلام آخر، وهوان بعضهم استدل بها على عدم وجود الجنة اليوم بناء على أن معني {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ} الخ نخلقها في المستقبل لأجلهم، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون الجعل متعديًا إلى مفعولين ثانيهما {لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ} الخ فيصير المعنى نجعلها كائنة وحاصلة لهم في الزمان المستقبل فتفيد الآية أن جعلها كائنة لهم غير حاصل الآن لا جعلها نفسها وهو محل النزاع، ودفع بأن المتبادر من جعل الدار كائنة لزيد تمكينه وعدم منعه من التمكن فيها سواء حصل له التمكن فيها أو لم يحصل، فمعنى {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ} الخ نمكنهم في الاستقبال من التمكن فيها، ولا يخفى ركاكته لأن التمكين من التمكن فيها لازم لوجودها غير منفك عنها على ما يدل عليه قوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] فلا يمكن أن تكون نفس اجلنة الآن ويكون جعلها كائنة لهم في الاستقبال، وحمل الجعل على التمكن بالفعل والتميكن من التمكن وإن كان لازمًا لوجود الجنة لكن التمكن فيها بالفعل غير لازم بل يكون فيما سيجيء عدول عن المتبادر فإن المتبادر من قولك: جعلت الدار لزيد تمكينه من التمكن فيها لا جعل زيد متمكنًا فيها بالفعل فتدبر ذلك كله. اهـ.